الإعلام المخطوف: سلطة الحقيقة في قبضة المال والسلاح

الإعلام المخطوف: سلطة الحقيقة في قبضة المال والسلاح
يتناول هذا المقال التحليلي ظاهرة “الإعلام المخطوف” في الوطن العربي. موضحًا كيف تحولت وسائل الإعلام إلى أدوات في قبضة المال السياسي. والجماعات المسلحة، والأحزاب السلطوية. تحليل معمق مدعوم بأمثلة واقعية ودراسات بحثية تكشف أبعاد الأزمة وتهديدها لبنية المعرفة والتعددية.
داود الجنابي
حين وُصفت الصحافة بأنها “السلطة الرابعة”. لم يكن ذلك توصيفًا مجازيًا فحسب. بل اعترافًا بدورها الحيوي في ضبط التوازن بين السلطات داخل المجتمعات الحديثة. غير أن هذه السلطة، في كثير من الدو. أصبحت خاضعة لمنظومات السيطرة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. بل وللقوى المسلحة والميليشيات. ما حوّل الإعلام من مساحة لكشف الحقيقة، إلى منصة لإعادة صياغتها بما يخدم جهات النفوذ.
إن اختطاف الإعلام لا يتم عبر الرقابة الصريحة فقط. بل غالبًا ما يُمارَس بأساليب أكثر نعومة وخفاء. في مقدمتها التمويل السياسي. وملكية وسائل الإعلام من قبل نخب حزبية.واستخدام المعلنين كأداة ضغط على السياسات التحريرية. وكما يعبّر الإعلامي الفرنسي بيير بورديو في كتابه “عن التلفزيون”:
“عندما تصبح وسائل الإعلام خاضعة لقوى السوق أو السياسة، فهي لا تقول ما يحدث، بل ما يُراد لها أن تقوله.”
في دول مثل العراق ولبنان، حيث المشهد السياسي متشظٍّ. يتوزّع الإعلام بين القوى المتصارعة.فتتحول كل وسيلة إلى صوت رسمي لحزب أو فصيل أو طائفة. ففي العراق، ظهرت بعد 2003 عشرات القنوات التلفزيونية، بواجهات إعلامية، لكن بخلفيات حزبية وعسكرية. قنوات مثل “العهد” و”بلادي” و”آفاق” ليست مجرد مؤسسات صحفية. بل أدوات خطابية لفصائل مسلحة، تُشرعن بها وجودها، وتهاجم من خلالها خصومها، وتخوض صراع الرموز والمعاني.
وفي لبنان، لم تعد الطوائف تقتصر على المساجد والكنائس، بل باتت تمتلك أيضًا قنوات إعلامية. “المنار” لحزب الله، و”المستقبل” لتيار الحريري، و”MTV” للقوى المسيحية. هذه القنوات لا تختلف فقط في زاوية التغطية، بل أحيانًا في توصيف الحدث ذاته. كما ظهر جليًا أثناء احتجاجات 17 تشرين. الحقيقة لم تكن في الخبر، بل في جهة تمويل القناة.
أما في اليمن، فالصورة أكثر قتامة. الجماعة الحوثية، منذ سيطرتها على صنعاء. أخضعت الإعلام الرسمي، وأطلقت قنوات جديدة مثل المسيرة، ليست بوصفها وسيلة إخبارية. بل كمنصة تعبئة دينية وعسكرية. وفي المقابل، موّلت الحكومة وقوى التحالف قنوات مضادة، ما جعل المواطن اليمني عالقًا بين سرديتين، تتصارعان على المعنى، وتُغفلان الواقع.
وإذا انتقلنا إلى المكسيك، سنجد نموذجًا آخر لاختطاف الإعلام. هذه المرة ليس من قبل السلطة السياسية. بل من قبل كارتلات المخدرات والجريمة المنظمة. إذ تسيطر هذه العصابات على الإعلام المحلي عبر الترهيب والابتزاز، ويُقتل صحفيون بمجرد محاولتهم تغطية أنشطة الكارتلات. وفق تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2023. تُعد المكسيك “أخطر بلد غير حربي للصحفيين”.حيث قُتل 11 صحفيًا خلال عام واحد، معظمهم بسبب تقاريرهم حول الفساد والجريمة.
العنف ليس هو الطريق الوحيد لاختطاف الإعلام
لكنّ العنف ليس هو الطريق الوحيد لاختطاف الإعلام؛ فـالمال السياسي يُعدّ الأداة الأكثر شيوعًا وخطورة. وكما تشير الباحثة الأمريكية إليزابيث ماكجليش في دراستها عن تمويل الإعلام في الأنظمة الانتقالية:
“التحكم في التمويل هو الطريقة الأذكى لإخضاع الوسائل الإعلامية دون الحاجة إلى رقابة مباشرة. إنه رقابة بلا رقيب، وقمع بلا صوت.”
استهداف حرية التعبير والصحفيين: الإعلاميون يُلاحقون، يُعتقلون، أو يُغتالون.
في هذا السياق، يمكن فهم كيف يُستخدم الإعلان كوسيلة ضغط. ففي مصر، تعتمد وسائل الإعلام الخاصة على الإعلانات الحكومية، التي تُمنح بناء على درجة ولاء الوسيلة لخطاب الدولة. هذه المنهجية تُسهم في تكريس إعلام ترويجي، يُجمل السياسات الرسمية، ويُهمّش الأصوات الناقدة. والأمر لا يقتصر على العالم العربي. فقد كشفت وثائق “فيسبوك” المسرّبة عام 2021. كيف طوّعت المنصة خوارزمياتها لصالح جهات سياسية ممولة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، مما عزز “تسييس المحتوى” بطريقة غير معلنة.
وبالعودة إلى المشهد العربي، فإن المال السياسي لا يُستخدم فقط في الضغط المالي، بل في الاستحواذ المباشر. ففي تونس، بعد الثورة. ظهرت قنوات يديرها رجال أعمال مرتبطون بأحزاب سياسية.وُظّفت لتصفية الحسابات السياسية. وترويج برامج انتخابية تحت غطاء الترفيه أو التغطيات الميدانية.
كل ذلك يؤسس لما تسميه الباحثة ناتالي فنتون بـ”الصحافة تحت الحصار”، حيث تقول:
“لم تعد المسألة تتعلق بحرية التعبير فقط، بل بحرية الوجود المهني للصحفي ذاته، في ظل منظومات تُضيق عليه ماليًا وقانونيًا وأمنيًا.”
(Fenton, 2010, New Media, Old News: Journalism and Democracy in the Digital Age)
أخطر ما يخلّفه الإعلام المخطوف ليس التضليل الآني، بل تحطيم الثقة المجتمعية في الإعلام كمؤسسة. حين يفقد الجمهور ثقته في الصحافة، لا يكتفي بالعزوف. بل يصبح عرضةً للروايات البديلة. التي قد تكون مغلوطة أو مؤدلجة أو غير مهنية.
الإعلام المخطوف ليس التضليل
ورغم ذلك، لا تزال هناك محاولات جادة لإحياء النموذج المهني المستقل. عبر منصات غير ربحية، أو تمويل جماهيري، كما تفعل مؤسسات مثل درج، ومدى مصر، والعربي الجديد. لكنها تبقى تجارب محدودة الأثر، ما لم يُفتح المجال التشريعي والتمويلي لها، ويُحمى الصحفيون من الاستهداف.
التحرر من واقع الإعلام المخطوف لا يكون فقط باستقلال التمويل. بل أيضًا بإعادة هندسة العلاقة بين الإعلام والمجتمع، بحيث يُعاد الاعتبار لوظيفة الصحافة كمؤسسة رقابية. لا كأداة تعبئة أو دعاية. لا بد من قوانين شفافة. ومجالس مهنية مستقلة.وتمكين مجتمعي للصحافة الحرة. كي لا تبقى الحقيقة رهينة في غرفة تحرير يتحكم فيها السياسي أو المسلح أو الممول.